جص او جبس وبعامية القدس وفلسطين تعرف اليوم المادة باسم جبصين، هي مادة قديمة استخدمت لملاط (قصارة) الجدران والواجهات لقسوته ولنعومة سطحه . وبداية استخدام المادة غير معروف، لكن طور من قبل الرومان القدماء لزخرفة الاسقف، ولاحقا طوره معماريّ العمارة الاسلامية للزخرفة الداخلية والخارجية على السواء، فصنعت منه القباب المقرنصة ، وتشكيلات كبيرة فنية جدارية ، ونماذج لأجسام حيوانية او نباتية عبر صبها في قوالب خاصة، وتستخدم المادة ايضا كزخارف بديعة للشبابيك والنوافذ، والاستخدام الاخير هو موضوع هذه الورقة.

والجبس (بكسر الجيم وسكون الباء) لغة تجمع على اجباس، وتعنى الجامد من كل شيء . ولفظة الجص او الجبص فارسية الاصل لكنها عربت، ويقال لصانع او مشكل الجص جصّاص، ولمكان صنع الجص جصاصة، او جباسة وتجمع على جباسات . ولقد وردت لفظة جص وجبس في اغلب قواميس اللغة العربية القديمة والحديثة ومعاجم العمارة والفنون ، ويقابلها بالانكليزية .(Gypsum, Plaster, Stucco)

واصل الجص من الحجر الجيري الذي يكسر ويسحق ويطحن ليصبح مادة ناعمة تخلط لاحقا بالماء وتشكل حسب الحاجة، وكان يضاف اليه مواد اخرى من الصمغ ومسحوق الرخام وقشر البيض ومواد اخرى كالرمل، لكن اليوم تصنع المادة تجاريا عبر تصنيع بتروكيماوي معقد.

وكان الجبص في العمارة الاسلامية على انواع منه العادي وهو نوع خشن غير نقى في الاغلب، ومنه الجبس الزجاجي، وهو مركب كما يفهم من الاسم من جبس وزجاج، والزجاج مادة تصنع من الرمل تصبح صلبه لكنها سهلة الكسر وتكون شفافة ولامعة وهذا النوع الاخير ممتاز الصفات حيث يصعب تفتيه اذا ما تجمد وتشكل. وهناك نوع اخر من الجبس عرف باسم البياض وهو ملاط ابيض ناعم استخدم لتكسية الجدران لتسويتها وتقويتها ولنقش الزخارف على الجدران. وهذه الانواع الثلاثة ورد ذكر لها في وثائق العصر المملوكي .

ولقد ابدع فنانو العمارة الاسلامية في استخدام مادة الجص في عمل التشكيلات المعمارية والزخرفية، وظهر هذا مبكرا في العمائر الاسلامية منذ العهد الاموي، في عدة عمائر منها قصر الحير الغربي (لوحة 1)، وانتقل واستمر ذلك في العهد العباسي وظهر جليا في مدينة سامراء واشتهر حتى نسب الطراز الى هذه المدينة ، وشاع ايضا استخدام الزخارف الجصية في جامع ابن طولون في القاهرة. لكن بلغت هذه الصناعة مكانة مرموقة في قصر الحمراء بغرناطة بالأندلس(لوحة 2، 3).

واشتهرت فلسطين بالزخارف الجصية ونالت حظوة كبيرة خاصة في العصر الاموى وما تلاه من عصور، وخير شاهد على ذلك قصر هشام الاموى في اريحا ومبنى قبة الصخرة المشرفة ومبنى الجامع الاقصى وكلاهما في القدس من ضمن عمارة المسجد الاقصى المبارك، بل تميزت مدينة القدس فني دقة صناعة الشبابيك الجصية وجمالها المميز. لقد كان لنسق الشبابيك دورا مهما في تخطيط المباني الاسلامية، وقد استخدمت للاستفادة من الاضاءة الطبيعية ولإدخال الهواء للمباني، وكانت الشبابيك والنوافذ على عدة اشكالها فمنها المستطيلة والمربعة والطولية والدائرية. وإذا كان مستوى الشباك قريبا من مستوى الطريق او الشارع فقد غطى بمصبعات معدنية جميلة الصناعة والتكوين لتوفر الحماية، وإذا كان مستوى الشباك عاليا ومرتفعا فقد غطى بطبقة من الزخارف الجصية الجميلة التي تطعم بتشكيلات من الزجاج الملون الشفاف. ويبدو ان هذه الصناعة التي كانت في الاصل اموية، استمرت في الفترة المملوكية والفترة العثمانية، فتكسية الشبابيك كانت هامة لعمارة الجامع الاقصى وقبة الصخرة، وكلاهما نال الرعاية والعناية من قبل السلاطين والخلفاء والأمراء منذ تأسيسهما وحتى يومنا هذا.

ومن حسن الطالع ان هذه الصناعة وهذا الفن الجميل الراقي لا زالت يمارس وبإتقان في ورشة اعمار المسجد الاقصى المبارك وبأيدى فنانين مهرة محليين. والواقع ان تكوين هذه الشبابيك في منتهى الجمال والإتقان(لوحة 4، 5)، خاصة اذا ما نظر اليها حينما تخترقها اشعة الشمس، حيث تتلون حزم هذه الاشعة بألوان قطع الزجاج الصغيرة التي تشكل خلفية لهذه الزخارف. وأروع هذه الامثلة توجد في رقبة قبة الصخرة وفي القسم العلوي من الجدار الجنوبي للمسجد الاقصى، وفي انحاء مختلفة من اقسام المسجد وفي المتحف الاسلامي، وفي عمائر متناثرة في اماكن اخرى من القدس وفلسطين، لكن الاجل والاهم يوجد في المسجد الاقصى المبارك.

وطريقة هذه الصناعة تحتاج الى صبر وموهبة والى مهارات متعددة وتستلزم عدة مراحل. وتبدأ اولى خطوات المرحلة الاولى بتحديد حجم الشباك المطلوب، ثم بعمل قالب خشبي متين، وبعدها يتم خلط مادة الجبص وصبها في القالب، وعادة ما يكون هذا القالب دائريا، او مستطيلا ينتهى بعقد نصف دائري، ويوضع هذا القالب على الارض حينما تصب خلطة الجبص حتى تتماسك وتقوى.

والمرحلة الثانية تستهل بان يرسم بقلم رصاص التكوين الزخرفي المنوى تنفيذه على الشباك، وعادة ما تكون هذه الزخارف نباتية دقيقة مع بعض التشكيلات الهندسية وغالبا ما يكون معها زخارف كتابية بخطوط جميلة متداخلة تحوي ايات قرآنية اوعبارات دعائية ويسجل فيها تاريخ صناعة هذا الشباك او سلسلة الشبابيك التي تنتمي الى فترة معينة او ترميم محدد امر به بعض الحكام والأمراء.

والمرحلة الثالثة (لوحة 6)هي ادق هذه المراحل، حيث يتم حفر وتفريغ الجص حسب التكوين المطلوب، ونظرا لان الشباك سيكون مرتفعا لعدة امتار، لذا فعملية الحفر يجب ان تكون مائلة حتى يمكن مشاهدة الزخارف، لأنه اذا كانت مستقيمة سيتعذر مشاهدتها إلا اذا كان مستوى النظر على نفس مستوى الشباك. ويستعمل في الحفر ادوات صغيرة وحساسة لان أي خطأ او اهمال قد يعنى اعادة صب القالب من جديد.

وبعد الانتهاء من عملية الحفر الدقيق، نصل للمرحلة الاخيرة وهي عملية تحشية قطع صغيرة من الزجاج الملون ووضعها خلف الزخارف الجصية لتشكل خلفية لهذه الزخارف(لوحة 7)، وتظهر مهارة الفنان هنا حينما يعطى كل وحدة زخرفية لونا محددا من الزجاج، حيث تسهل على المشاهد ان يتتبع الوحدة الزخرفية بكل يسر وسهولة رغم تداخل وتشابك هذه الوحدات مع بعضها البعض.

هذه صناعة فنية تحتاج الى حس مرهف وصبر وإتقان ومتابعة والى تعاون فريق فنى وإداري نجده اليوم ممثلا بتواضع لكن بحرفية وإخلاص في فريق ورشة الشبابيك الجصية في لجنة اعمار المسجد الاقصى المبارك يتكون من الفنى الاخ الكريم بشير الموسوس الذي اتقن الصنعة وتشربها من رحمة والداه، ويعاونه زملاء كرام منهم علاء المحتسب ومحمود ابراهيم الرويدي، ويدعمهم فنيا وادريا الرسام المتقن صاحب الخبرة الطويلة يوسف البصبوص وعيسى سلهب، اضافة الى رئيس جهاز الاعمار المهندس بسام الحلاقة ومساعدة المهندس طه عويضة.

ان دقة هذا العمل وأهميته وعراقته تستدعى وقفة اوسع واكبر وأكثر تفصيلا لا يتسع لها هذا المقام، لكن ستكون في دراسة اوسع واشمل قريبا ان شاء الله. لكن خير ما نختتم به هذه العجالة القول ان عمل شباك مساحته متر مربع يستغرق ما بين 120-150 ساعة عمل مضنية(لوحة .

قائمة المراجع الاساسية

العربية

بهنسى، عفيف، معجم العمارة والفنون، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان 1993.

رزق، عاصم، معجم مصطلحات العمارة والفنون الاسلامية، مكتبة مدبولي، القاهرة، 2000.

امين محمد وإبراهيم ليلى، المصطلحات المعمارية في الوثائق المملوكية(648-923/1250-1517)، دار نشر بالجامعة الامريكية بالقاهرة، 1990.

الاجنبية

Fleming, J, Honour, H, Pevsner, N, The Penguin Dictionary of Architecture, The Penguin, England, 1991

Lever, J., Harris, J., Illustrated Dictionary of Architecture, 800-1914, London, 1993

الشبكة الالكترونية

فهرس اللوحات

لوحة 1 زخارف جصية من قصر الحير الغربي من الفترة الاموية(نقلا عن موقع اكتشف سورية)

لوحة 2 زخارف جصية في قصر الحمراء في غرناطة

لوحة 3 مقرنصات ركنية وعقد مشكل من زخارف جصية في قصرا الحمراء في غرناطة

لوحة 4 زخارف جصية في الجدار الشمالي للجامع الاقصى حيث المدخل باتجاه الجنوب

لوحة 5 احدى النوافذ الجصية في مبنى قبة الصخرة المشرفة

لوحة 6 السيد بشير الموسوس ومساعدة محمود الرويدي في ورشة الجص

لوحة 7 تظهر تحشية القطع الزجاجية الدقيقة من الخلف

لوحة 8 احد الشبابيك التي تم انجازها في ورشة الجص في المسجد الاقصى المبارك

لوحة 1 زخارف جصية من قصر الحير الغربي من الفترة الاموية(نقلا عن موقع اكتشف سورية)

لوحة رقم 2 زخارف جصية في قصر الحمراء في غرناطة

لوحة 3 مقرنصات ركنية وعقد مشكل من زخارف جصية في قصرا الحمراء في غرناطة

لوحة 4 زخارف جصية في الجدار الشمالي للجامع الاقصى حيث المدخل باتجاه الجنوب

لوحة 5 احدى النوافذ الجصية في مبنى قبة الصخرة المشرفة

لوحة 6 السيد بشير الموسوس ومساعدة محمود الرويدي في ورشة الجص

لوحة 7 تظهر تحشية القطع الزجاجية الدقيقة من الخلف

لوحة 8 احد الشبابيك التي تم انجازها في ورشة الجص في المسجد الاقصى المبارك