كنا هنا من قبل...
ليس لمرة بل في اكثر من محطة مفصلية في تاريخ النضال الوطني التحرري، كنا امام خيارات سياسية صعبة، كلفتها البشرية والمادية كبيرة، وأبعادها الاقتصادية والاجتماعية الجوهرية شبيهة بتلك التي تواجه الشعب الفلسطيني اليوم، في خضم حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة. ربما لم تكن التحديات في لحظات سابقة لاحتدام المواجهة مع الصهيونية التوسعية (1948، 1967، 1982، 1992، 2002) أقل مما تبدو اليوم. لكنها في أبسط أشكالها كانت تلخص هذه الخيارات سياسياً، بين المقاومة ومخاطر الموت الدموي الواسع، او الرضوخ للاستعمار وتحمل الموت البطيء الاوسع، بين الإبادة العنيفة المتوحشة اليوم، والابادة الصامتة الزاحفة دائماً،ً لانها كانت قائمة قبل فاصل الابادة العنيفة هذا.
مقابل هول التدمير والإبادة والتهجير الوشيك في قطاع غزة، والاشتباك الميداني المتواصل مع الاستيطان وجيش الاحتلال في الضفة الغربية، وكبح جماح الجماهير الفلسطينية داخل القدس المحتلة والمناطق العربية داخل إسرائيل، فان التشتت الجغرافي والسياسي والمؤسسي السائد فلسطينياً يفرض على الشعب الفلسطيني تنظيم نفسه بنفسه. يتوجب اليوم على الكل الفلسطيني من النهر الى البحر، بين الوطن والشتات، حكماً وشعباً وفصائل، الانخراط في توجهات وحدوية تكفل ليس فقط الصمود والبقاء، بل لتحقيق شكلٍ من أشكال الانتصار في معركة الوجود والإرادة. مثل تلك النتيجة الايجابية قد لا تظهر قريباً، بل ربما فقط بعد فترة أطول من المواجهة العسكرية والحراك السياسي الفلسطيني المؤدي لتوافق سياسي وإدارة موحدة بين الضفة والقطاع. اذا كانت الوحدة الوطنية شرطاً لأفضل حالة سياسية ممكن تخيلها، فتلك لن تكون وحدها كافية لاطلاق عملية سياسية تجبر إسرائيل على التنازل عن مطامعها الاستعمارية او الدخول في عملية تسوية سياسية دائمة، كما تطالب بعض الأطراف الفلسطينية والعربية والدولية، وحتى الإسرائيلية. أمام عدم اليقين حول المستقبل القريب، من الاجدر الافتراض ان معركة غزة هي افتتاحية لصراع عنيف أطول في فلسطين وفي المنطقة، لم تصل قمتها بعد، وتتطلب حشد كل ما في امكانيات للشعب الفلسطيني في الوطن والعالم من طاقات لخوض الحرب الطويلة، بما فيها الاقتصادية والاجتماعية، إذا افضت الامور الى ذلك.
إذا، الى جانب التحضير للاحتمال المتفائل بان نتائج المعركة الدائرة قد تقرِّب فرص سياسية تسمح ببناء اقتصاد وطني لدولة مستقلة خلال السنوات القادمة، لا بد أيضا من التفكير فيما هو أسوء وأخطر، أو "سيناريو القيامة". مثل هذا الاحتمال قد يتولد من نزوح بشري قسري أو عفوي/طوعي، وحالات مجاعة وأوبئة وافقار وارهاب ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة خاصة، ومواصلة المواجهة مع حكومة إسرائيلية فاشية مصممة على انهاء القضية الفلسطينية وقمع الشعب الفلسطيني وتشتيته في العالم. وبينما لا يمكن تصور كل هذه الابعاد والتاثيرات الكارثية (والتي ندعو الاّ نشهدها ابداً)، فان ملامح ما قد يُفرض اقتصادياً ليست مجهولة، وكما قلنا: كنا هنا من قبل. بالتالي فما هو مطلوب بات معروفا من زمن طويل ولن نخوض هنا بتفاصيله، لكن الاستعداد لانجازه موضوع على المحك اليوم كما لم يكن في التاريخ.
تجارب يجب الاّ تتكرر
بعيداً عن الظروف المادية التي ستحدد اتجاه مسار الشعب الفلسطيني السياسي في الحقبة الجديدة، والذي نأمل ان يكون خياره الحر وليس خيار الأطراف الخارجية، وهي نتائج ما زالت مرهونة باتجاهات الحسم العسكري الميداني، فان مثل هذه الخيارات السياسية الصعبة كانت دائماً ترافقها خيارات اقتصادية ليست أقل تعقيداً. بعضها لم تكن خيارات طوعية بل قسرية. ففي أكثر من مفترق تاريخي، كان الشعب الفلسطيني واقتصاده بين اختبار السعي للبناء الاقتصادي الفلسطيني الذاتي، تحت حكم استعماري معادٍ من جهة، وكان من جهة أخرى تحت ضغط الانصهار غير المتكافئ والمشوه في منظومة الاقتصاد الاستعماري المسيطِر. أسفر عدم حسم ذلك التناقض في كل مرحلة عن محاولة كسب بعض المزايا من الارتباط القسري بالاقتصاد الإسرائيلي من قبل العمال ورؤوس الأموال، على الرغم مما ينطوي عليه من اضعاف لمصالح المسار الاقتصادي المستقل أو تعطيل للجهد التنموي الوطني الأشمل. وما زالت هذه المقاربة تتحكم بما هو مرغوب أو مطلوب لإحداث تنمية اقتصادية مستدامة أو عدالة اجتماعية، نظرية من جهة، وما هو ممكن فعلياً في ظل قيود الاستعمار وآلياته الاقتصادية من جهة واقعية.
يبقى بمحله السؤال الذي طُرح عام 1948 ثم في 1992 وفي مناسبات أخرى: هل تعلّمنا شيئاً من كل هذه التضحيات والتجارب والمواجهات، قد يُطمْئِن الى أن الانفكاك القسري اليوم لن يواجه مصير سابقاته؟ هل الاقتصاد الفلسطيني اليوم في وضع يسمح له بخوض "حربٍ اقتصادية اجتماعية لا هوادة فيها" للانفصال عن الهيمنة الإسرائيلية وكسر الطوق التجاري والمالي المفروض و"تشابك مصالح العرب بمصالح اليهود"؟
ما زلنا نفتقد في حالة الطوارئ هذه الى رؤية أو قرار لكيفية التعامل مع مسائل حيوية مثل العمالة العاطلة، والفقر المتزايد، وإرتفاع أسعار المواد الأساسية، واعتداءات المستوطنين والجيش على الممتلكات والبشر، ومحدودية توفر المنتجات الوطنية، وعدم تكثيف الاستتثمار في القطاعات المولِّدة للإنتاج والمستوعِبة للعمالة (الانشاءات والزراعة والصناعة)، وقدرة الأسر المقترِضة على تحمّل أعباء الاقتراض من نظام مصرفي هو نفسه تحت الضغط...
شهدنا بتجلي عشية نكبة 1948 ذلك الصراع بين المصلحة الاقتصادية العامة المعزِّزة للحراك النضالي الوطني ومصالح رأس المال والنخب الحاكمة، حين حاولتْ، وأخفقتْ القيادة الفلسطينية في تنظيم مقاطعة اقتصادية للمصالح التجارية اليهودية، على افتراض أن التنظيم الاقتصادي الفلسطيني الذاتي كان ضرورياً كسلاح في المواجهة الاوسع. كتب حسين فخري الخالدي في مذكراته العام 1949 عن تلك التجربة، وهو يتحسر على السنوات الـ30 الضائعة السابقة في المواجهة مع الحركة الصهيونية، والتي لم يتم خلالها التمهيد للمقاطعة. يسرد كيف في 1946 "أردنا القيام بعمل جبار بظرف بضعة أشهر نقيم فيها المصانع لنستقل بإنتاج ما نحتاجه ونؤلف الشركات الكبيرة للاستيراد والتصدير، وفاتنا القطار هذه المرة كما فاتنا في مرات عديدة سابقة..."
نجد مثالاً آخر لمرحلة فرضت ظروفاً اقتصادية واجتماعية قاسية وخيارات سياساتية اقتصادية مفصلية لم تكن القيادات جاهزة للتحكم بتطورها أو لتنفيذها بنجاح، مع الانتفاضة الاولى (1987 -1992). انطوت السنوات الأولى للانتفاضة على مبادرات اقتصادية عبّرت عن إرادة الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحكم نفسه (مقاطعة العمل في إسرائيل ومنتجات الاحتلال، تنشيط الاقتصاد المنزلي والزراعي، عصيان ضريبي الخ). طُرحت وجُرِّبت توجهات تجديدية حسب رؤى أصيلة ووعي بأهمية ممارسة المقاومة الاقتصادية كوسيلة هامة للمقاومة الجماهيرية، ومستندة الى دراسات وخطط وضعت منذ 1981 وسنوات من برامج أردنية فلسطينية ل"دعم الصمود". مع أهمية هذه المبادرات، فلعل القيادة الوطنية الموحدة في حينه، ومن خلفها م.ت.ف، لم تُدرك حجم التحدي الكامن في محاولة خوض مواجهة اقتصادية مع الاحتلال، وحساسية التلويح بالسلاح الاقتصادي دون العمل على البدائل القابلة للاستدامة. السعي لإفعال الانتفاضة، كحالة من العصيان المدني والوطني، والانفصال الاقتصادي عن الاحتلال الاسرائيلي، لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي تكون فيها الطموحات والشعارات أكبر من القدرة التعبوية والإدارية والمادية للقيادة الفلسطينية ولطاقات شعب منهك بالصراع المطول. وهنا ربما يكمن بيت القصيد.
كانت انتقلت الانتفاضة بحلول 1992 من مرحلة العفوية وحركة الجماهير الواسعة الى حالة من الأزمة الاقتصادية والسياسية المستفحِلة بفعل البيروقراطية التي أصابت اللجان الشعبية والابتعاد عن الأطر القاعدية التي كانت منتشرة في أولى سنوات الانتفاضة. ناهيك عن الأزمة الاقتصادية الخانقة عام 1991 عقب تهجير مئات الآلاف من العمال الفلسطينيين من الكويت وعودتهم الى الأردن وفلسطين ليزيدوا من أزمات البطالة والتشتت. كما اتسمت تلك الفترة بعزلة م.ت.ف العربية ودخولها من الباب الخلفي الى عملية السلام التي انطلقت في مدريد. أدى تراكم هذه الظروف الى استنزاف كل من المنظمة والشعب، وهيأ دون شك لفرض العديد من الشروط الإسرائيلية والأميركية على الجانب الفلسطيني في مفاوضات أوسلو (السياسية) وباريس (الاقتصادية) والقاهرة (الأمنية).
ما هو لافت من التجربة الاقتصادية للانتفاضة الأولى ليس فقط أن اقتصاد إسرائيل الكبير مكّنها من تحمل تكلفة الانتفاضة المالية بشكل أفضل مما استطاعه الاقتصاد الفلسطيني، وأنه تأقلم مع مجرياتها. بل أن تلك الحقيقة الصعبة جعلت نداءات قيادة الانتفاضة تتحول من المطالبة في 1988 بمقاطعة العمل في إسرائيل، الى مناشدة سلطات الاحتلال في 1992 بالسماح للعمال الفلسطينيين المفْقرين بالدخول الى مواقع عملهم في الداخل وفي المستوطنات، جراء فرض إسرائيل إجراءات واسعة النطاق من اغلاقات وانفصال من طرفها!
حان الوقت لإجراءات جذرية وسريعة لتقليل الاعتماد على "ورطة" أموال المقاصة الضريبية التجارية الرهينة لدى إسرائيل. وتستدعي الحالة الطارئة عدم التردد في تفحّص طرق إعادة هيكلة وظائف السلطة بما يُرشِّد النفقات العامة ويؤدي الى توظيف أكثر إنتاجية وكفاءة لكادرها الإداري الضخم، حيث اقتربت أعمالها وخدماتها من الشلل بغياب الرواتب المنتظِمة، وفي سياق التآكل الذي تمارسه إسرائيل على صلاحياتها ونطاق ولايتها.
في الضفة الغربية توجهات اقتصادية مطلوب التحضير لها لمواجهة مرحلة حربية قد تطول. ما زال هناك اقتصاد خاص ينبض وقطاع عام يُشغِّل 150 ألف فلسطيني، وكذلك هناك مليونا فلسطيني في القدس والداخل، و7 مليون في الخارج، ولا بد من تحويل تضامنهم الكبير الى مكاسب سياسية. تقع على جميع الفلسطينيين خارج غزة مسؤولية كبرى في تحمل العبء الاقتصادي القادم على كل فلسطين.
إن دراسة تجربة الانتفاضة الاقتصادية ليست مهمة لأسباب علمية تاريخية فقط، بل لأنها تذكرنا اليوم بحقيقتين ثابتتين: أولاً، أن التحدي الاقتصادي الأبرز أمام فلسطين كان وما زال ذلك الهدف التأسيسي لكل الأهداف الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، بالانفصال عن السيطرة الاقتصادية الإسرائيلية وبناء اقتصاد وطني ومستقل ومنتِج. وعلى الرغم من كل التغييرات السياسية والمؤسسية والاقتصادية منذ تلك الفترة، فإننا اليوم نواجه التحدي نفسه بسبب تصعيد المواجهة مع الاستعمار الى حالة حرب شاملة، عسكرية وإنسانية وسياسية واقتصادية.
كذلك يُطرح التساؤل نفسه حول مدى جدوى مثل هذا الانفصال والإمكانية الفعلية له دون تكبد خسائر قد تكون أكبر من المكاسب المحتملة، إذا لم يتم ذلك الانفصال بشكل مدروس وتدريجي وحذِر. يبدو من النقاش الدائر فلسطينياً منذ قرارات م.ت.ف قبل سنوات "بالانفكاك عن التبعية الاقتصادية الاستعمارية" (والتي لم تتم متابعة تنفيذها)، أننا لم نقطع مسافة كبيرة خلال السنوات ال30 الماضية، لا من ناحية تقليل الاعتماد/الترابط مع الاقتصاد الإسرائيلي والتحرر من أدوات الاحتلال الاقتصادية القمعية، ولا من ناحية العمل السياساتي والاستثماري اللازم لتحقيق مثل ذلك التحول في علاقة التبعية الاقتصادية للقوة القائمة بالاحتلال.
هذا يقودنا الى الثابت الثاني الذي يطرحه استعراضنا هنا، وهو مدى التطور (أو التخلف ربما) في مضمون وصواب العقيدة الاقتصادية الفلسطينية السائدة منذ حقبة الانتفاضة، عندما وُضع جانباً فكر م.ت.ف الاقتصادي شبه الاشتراكي وتمّ استبداله بعقيدة "اقتصاد السوق الحر" تحت رعاية "إجماع واشنطن" (Washington Consensus) . كانت جميع السياسات والمبادرات الفلسطينية خلال الانتفاضة تصب في الهدف العريض المتمثل بالانفصال وتكبيد الاقتصاد الاسرائيلي خسائر جراء ذلك، واستُخدمت جميع الوسائل المتاحة لإبراز هذه الغاية، وفي مختلف القطاعات الممكنة. لكن إخفاقات إنجازها مهّدت لسيادة عقيدة التعاون والاندماج الاقتصادي خلال تسعينيات القرن الماضي، تبعتها مرحلة جديدة للتخطيط للانفصال الاقتصادي إبان الانتفاضة الثانية، التي بدورها هُزِمت وتبعتها سنوات طويلة من الإصلاح و"بناء مؤسسات الدولة" (!) والسلام الاقتصادي المشوه مع إسرائيل. فهل الرؤية والقدرة الذاتية الاقتصادية الفلسطينية القائمة اليوم هي المناسِبة والكفيلة بالتعامل مع ما قد نشهده من ذلك السيناريو "المتشائم"؟
اليوم تاريخنا وخبرتنا على المحك
للأسف فأن القدرة الإنتاجية الذاتية الفلسطينية لم تتطور كثيراً حتى عشية حرب الإبادة في أواخر 2023، ولم تولِّي السلطة الفلسطينية أي جدية لهدف الانفكاك الاقتصادي الذي وضعته، ولم تستطع حماية المنتج الوطني وتعزيز الحصة السوقية له، ولم تعمل على وقف نزيف العمال الفلسطينيين الى الأسواق الإسرائيلية، ولم توفر لهؤلاء بدائل أصلاً عن تبعيتهم لتلك الأسواق. لا يختلف الموقف عندما نتحدث عن المقاطعة للمنتجات الاستهلاكية الاسرائيلية، أو للعمل في المستعمرات الإسرائيلية، أو لتكثيف الاستثمار والإنتاج بدلاً من تعظيم الاستهلاك والاستيراد. كذلك سمح فلسطينياً وعالمياً بأن يبقى قطاع غزة محاصراً واقتصاده منسلخاً عن الاقتصاد الوطني ويسلك في اتجاه منفصل، مشوه بدوره ومتروك لمصيره.
انطوت فترة انتفاضة 1987- 1992 على مبادرات اقتصادية عبّرت عن إرادة الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وحكم نفسه (مقاطعة العمل في إسرائيل ومنتجات الاحتلال، تنشيط الاقتصاد المنزلي والزراعي، عصيان ضريبي الخ). طُرحت وجُرِّبت توجهات تجديدية حسب وعي بأهمية ممارسة المقاومة الاقتصادية كوسيلة للمقاومة الجماهيرية، وكانت مستندة الى دراسات وخطط وُضِعت منذ 1981، والى سنوات من برامج أردنية فلسطينية ل"دعم الصمود".
لم تُدرك القيادة الوطنية الموحَّدة في حينه، ومن خلفها م.ت.ف، حجم التحدي الكامن في محاولة خوض مواجهة اقتصادية مع الاحتلال، وحساسية التلويح بالسلاح الاقتصادي دون العمل على البدائل القابلة للاستدامة. لم تكن المرة الأولى أو الأخيرة التي تكون فيها الطموحات والشعارات أكبر من القدرة التعبوية والإدارية والمادية للقيادة الفلسطينية ولطاقات شعب منهمك بالصراع المطول. وهنا ربما يكمن بيت القصيد.
في جميع هذه الجوانب، فأنه لم يتحقق تقدم في الظروف الموضوعية المتحكمة بالفعل الاقتصادي بما يسمح بخوض تلك المعركة الصعبة والمكلفة للانفصال عن التبعية الاستعمارية. بل بقيت حالة النقاش والدراسة مفتوحة حول الخيارات والفوائد والخسائر والممكن وغير الممكن، دون الاستعداد لحسم الجدل والبدء في التنفيذ الملموس، الى ان جاء طوفان الأقصى ليطيح بما كان قائماً من علاقات اقتصادية مشوهة أصلاً وترتيبات متقادمة لإدارتها. ها نحن نشهد فرض واقع سياسي جديد داخل إسرائيل وفلسطين، يحسم الجدل ويعجّل الانفصال القسري وليس الطوعي، وسيقضي بالتوجه نحو سياسات اقتصادية مناسبة في زمن الحرب. ما يدعو للقلق ان الحالة المؤسسية الفلسطينية (في رام الله أو في غزة) والسياسات الاقتصادية المتاحة، ربما ليست أكثر جاهزية اليوم لاعتمادها مما كانت عليه في محطات سابقة. بل تذهب الخبيرة هنيدة غانم أبعد من ذلك، فهي وصلت، عشية هذه الحرب، الى استنتاج أن الحالة الفلسطينية الداخلية الراهنة والاحتقان الصهيوني الفاشي والتواطئي العربي والعالمي، أشبه بما كان سائداً عشية نكبة 1948...
على أية حال، بالإضافة للمهام فوق طاقة البشر الاعتيادية، في إغاثة وتطبيب واعاشة مليوني فلسطيني منكوب في قطاع غزة، هناك في الضفة الغربية عدد من التوجهات الاقتصادية المطلوب التحضير لها لمواجهة مرحلة حربية قد تطول. ما زال هناك اقتصاد خاص ينبض وقطاع عام يشغّل 150 ألف فلسطيني وينظم الاقتصاد، وكذلك هناك مليونا فلسطيني في القدس والداخل، و7 مليون في الخارج، لا بد من تحويل تضامنهم الكبير الى مكاسب سياسية ورصيد بشري يأخذ دوراً مناسباً في الجهد الوطني. بالتالي تقع على جميع الفلسطينيين خارج غزة مسؤولية كبرى في تحمل العبء الاقتصادي القادم على كل فلسطين.
لكن بعد ثلاثة أشهر من حالة الحرب، فإن عدم اقدام الوزارات الفلسطينية المشلولة أمام حجم المشهد، أو مؤسسات القطاع الخاص التمثيلية المتخوفة من القادم، أو منظمات المجتمع المدني الغاضبة بصوت عالٍ، على طرح أو انتهاج سياسات ومبادرات وتوجيهات لمعالجة ذيول الأزمة الاقتصادية في الضفة الغربية، ينذر بمخاطر إضافية، فلسطين بغنى عنها. يتلخص التحدي الأكبر الذي يلوح في الأفق في فقدان القدرة الفلسطينية الرسمية أو المؤسسية على التاثير الذاتي في أي مجال من مجالات النشاط الاقتصادي.
ما زلنا نفتقد في حالة الطوارئ هذه (والتي من المستغرب الاّ يتم الإعلان عنها رسمياً على الرغم من خطورة الأوضاع)، الى رؤية أو قرار لكيفية التعامل مع مسائل حيوية مثل العمالة العاطلة، والفقر المتزايد، وإرتفاع أسعار المواد الأساسية، واعتداءات المستوطنين والجيش على الممتلكات والبشر، ومحدودية توفر المنتجات الوطنية، وعدم تكثيف الاستتثمار في القطاعات المولِّدة للإنتاج والمستوعِبة للعمالة (الانشاءات والزراعة والصناعة)، وقدرة الأسر المقترِضة على تحمّل أعباء الاقتراض من نظام مصرفي هو نفسه تحت الضغط... والقائمة طويلة. كذلك حان الوقت لإجراءات جذرية وسريعة لتقليل الاعتماد على "ورطة" أموال المقاصة الضريبية التجارية الرهينة لدى إسرائيل، والمتضائلة أصلاً بسبب تراجع الاستهلاك والواردات. تستدعي الحالة الطارئة أيضاً عدم التردد في تفحص طرق اعادة هيكلة وظائف السلطة بما يرشد النفقات العامة ويؤدي الى توظيف أكثر إنتاجية وكفاءة لكادرها الإداري الضخم، حيث اقتربت أعمالها وخدماتها من الشلل بغياب الرواتب المنتظِمة، وفي سياق التآكل الذي تمارسه إسرائيل على صلاحياتها ونطاق ولايتها.
في نهاية الامر، وفي غياب قيادة فلسطينية موحدة للوطن وللشعب، تستند للحكمة والمصداقية الكافية لتسهيل وتفعيل الاستجابات اللازمة للموجات المتلاحقة والمتراكمة من الصدمات الاقتصادية الجارية، يصعب تصوّر كيفية اجتياز هذه المحنة وتفادي الدخول في مرحلة يجب الاّ نستثني احتمالها، لاقتصاد الأبارتهايد الإسرائيلي، واشتباك غير متكافئ ومطوّل ومكلِف مع الاحتلال.
الأرض قد تضيق بنا... لكن لأهل غزة ديناً أبديّاً على الشعب الفلسطيني
يبقى السؤال الذي طرح عام 1948 ، ثم في 1992 وفي مناسبات أخرى، بمحله: هل تعلّمنا شيئاً من كل هذه التضحيات والتجارب والمواجهات، قد يطمْئِن الى أن الانفكاك القسري اليوم لن يواجه مصير سابقاته؟ هل الاقتصاد الفلسطيني اليوم في وضع يسمح له بخوض - كما لقّبه حسين فخري الخالدي قبل جيلين من الثورات - "حرباً اقتصادية اجتماعية لا هوادة فيها"، للانفصال عن الهيمنة الإسرائيلية وكسر الطوق التجاري والمالي المفروض و"تشابك مصالح العرب بمصالح اليهود"؟
شهدنا بتجلي، عشية نكبة 1948، ذلك الصراع بين المصلحة الاقتصادية العامة المعزِّزة للحراك النضالي الوطني، ومصالح رأس المال والنخب الحاكمة، وذلك حين حاولتْ، وأخفقتْ القيادة الفلسطينية في تنظيم مقاطعة اقتصادية للمصالح التجارية اليهودية، على افتراض أن التنظيم الاقتصادي الفلسطيني الذاتي كان ضرورياً كسلاح في المواجهة الأوسع.
لم يتحقق تقدم في الظروف الموضوعية المتحكِمة بالفعل الاقتصادي بما يسمح بخوض تلك المعركة الصعبة والمكْلفة للانفصال عن التبعية الاستعمارية. بل بقيت حالة النقاش والدراسة مفتوحة حول الخيارات والفوائد والخسائر والممكن وغير الممكن إلخ ... دون الاستعداد لحسم الجدل والبدء في التنفيذ الملموس.
ان الجواب اليقين لهذه التساؤلات يكمن فيما سيحصل على الأرض خلال الأشهر القليلة القادمة، في مخيمات جنين وطولكرم وشوارع الضفة، وصولاً الى أنفاق المقاومة والحشود الجماهيرية في غزة. لن ننسى بأن للشعب الفلسطيني في غزة ديناً كبيراً على أشقائهم الفلسطينيين قبل العرب، حيث يحمل هؤلاء على أكتافهم المثقلة بالشهداء والايتام، بالنيابة عن كل الشعب الفلسطيني أينما وُجد، وعن جميع احرار العالم، الكلفة الكبرى لمهمة إعادة المركزية لقضية فلسطين وأصولها الحقوقية وإرثها الثوري، الى واجهة المشهد والضمير العربي والعالمي.
سيأتي اليوم الذي يتم فيه تسديد تلك الفاتورة المخيفة في بناء غزة فلسطين الجديدة، مأوى لجميع أبنائها وليست طاردة لهم، محرّرة من الاحتلال وموحدة مع بقية شعبها وأرضها، ومزدهرة كما تستحق.
1- تضيق بنا الأرض، محمود درويش، الديوان ↑