تدفق نحو نصف مليون فلسطيني من الضفة الغربية إلى القدس ومدن الداخل في 1948 عند الحصول على تصاريح للمرور إلى الأماكن المقدسة تحت بند التسهيلات التي أعلنتها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في شهر رمضان. ومع هذه الخطوة التي تبدو مخططاً لها بطريقة ذكية تتضمن الكسب التجاري الخالص، انتعشت المراكز التجارية الإسرائيلية (المولات)، خصوصاً عبر تدفق ملايين الشواكل الفلسطينية إليها يومياً. فقد كانت هنالك طبقة كاملة من المستهلكين الفلسطينيين ممن انتشروا في هذه المراكز والدكاكين لكي يشتروا كل ما تصل إليه أيديهم من بضائع بدعوى إغراء تنزيل الأسعار، أو اقتناء ماركات تجارية شهيرة، مسببين ليس فقط الخسارة الفادحة للتجار الفلسطينيين في القدس العربية ورام الله ومدن أخرى، ولكن، قبل هذا، الربح العميم والانتعاش الاقتصادي للسوق الإسرائيلية التي كانت تشكو الكساد بطريقة أو بأخرى.
يعني لو كانت هنالك شريحة صغيرة هي التي قدمت ملايين الشواكل يومياً للتجار الإسرائيليين، وليس جميع من استفادوا من الدخول، فهذه الشريحة هي التي تتحمل مسؤولية رفد السوق الإسرائيلية بالمكاسب النقدية وغيرها، علماً أن هذه الشريحة هي أول من تتذمر في العادة من أي قيود تضعها أية جهة على إنفاقها. ويعني هذا خللاً بيّناً ليس في المنظومة الاقتصادية الفلسطينية وحدها، وإنما هو خلل في جميع أركان المجتمع الفلسطيني، سواء المجتمع غير الرسمي الذي يَقبل ببساطة الشكوى من ذل المحتل ثم يُقبل على أسواقه بلهفة وسعادة، أو في الحراك الشبابي الذي يطلق شعارات متطرفة، لكنه لا يقرنها بتطبيق واقعي لرفع مستوى الوعي الحياتي الفعلي، وأيضاً الحركة الوطنية السياسية على اختلاف مشاربها، خصوصاً من يرفعون الشعارات الحافلة بالتهديد والوعيد دون أن نجد لها أي تطبيق أو معنى حقيقي على الأرض.
في المقابل، نعرف أن الهيئات الإسرائيلية تقوم بترتيب أمور عشرات آلاف السياح القادمين عبر مطار اللد إلى الحج المسيحي في الأراضي المقدسة بحيث لا ينفق هؤلاء الضيوف قطعة عملة واحدة في فلسطين. فهنالك حافلات تنقلهم من إسرائيل إلى المواقع المسيحية في القدس وبيت لحم والمغطس وحتى البتراء الأردنية أحياناً كثيرة، وهي تعيدهم إلى إسرائيل بعدها تواً، موفرة طعامهم وشرابهم بحيث لا يقومون بشراء لقمة واحدة من التجار الفلسطينيين. ونعرف جميعاً أن دكاكين التذكارات "السنتوارية" في بيت لحم صارت تعاني من أزمة كبيرة بسبب منع ركاب هذه الحافلات من الشراء من عندهم تحت حجة الإرهاب، وتوجيههم للشراء من إسرائيل، وإسرائيل وحدها.
مفارقة عجيبة أن تنشر الجرائد الإسرائيلية خبراً عن محاولة عشرات الشباب الإسرائيليين في القدس الغربية قتل ثلاثة من الشبان الفلسطينيين ممن تواجدوا في أحد ميادين المدينة، ما نتج عنه إصابة أحدهم بجروح خطيرة جعلته على أعتاب الموت، ومن الأعجب أن نسمع يومياً عن هدم بيوت وحرقها من قبل المستوطنين، وعن أسرى ومرضى وجدران وأسيجة، وهؤلاء المتسوقون الفلسطينيون غافلون أو متغافلون إلا عن سعادة التسوق.
يعني.. هل تكون سياحة الفلسطيني داخل وطنه تأدية ثمن للمحتل؟ أم أن بإمكان المرء أن يقوم بأي شيء ما دام يقنع نفسه بأنه ضحية "أبدية" يحق لها ما لا يحق لغيرها؟ وهل يغلب هذا المقولة بأن الاحتلال يجلب الشر والغباء والهوان في حزمة واحدة؟!.
الايام الفلسطينية 23/8/2012