عندما سألت وزير التعليم في استونيا : كيف نجحتم ببناء اقتصاد قوي بواسطة تكنولوجيا المعلومات؟
أجاب: كنا محظوظين أننا قبل ٢٠ عاماً وبعد التحرر من قيود الاتحاد السوفيتي السابق عام ١٩٩١م، لم نكن مهمين في هذا العالم فلم يهرول حولنا الممولون لتمويل مشاريعنا بأجنداتهم، ولم نكن نمتلك ثروات طبيعية سوى عقول أبنائنا…
استونيا، بلاد بعيدة عن مركز العالم القديم والجديد، تقع حول بحر البلطيق، روسيا وليتوانيا ولاتفيا من حولها وفينلندا تبعد عنها ٧٠ كم بحراً، لا يزيد عدد سكانها عن ١.٤ مليون نسمة، ويجتاحها البرد القارص ثمانية أشهر بالسنة.
خرجت من فقرٍ مطقع كان يهددها قبل ٢١ عاماً واليوم تعد من أكثر الدول تقدماً في تكنولوجيا المعلومات .
احتلت استونيا المرتبة السادسة في العام ٢٠١١ في نسبة استخدام الانترنت على صعيد الدول الأوروبية التي وصلت إلى ٧٦٪، وبذلك سبقت دولاً كبيرة كفرنسا على سبيل المثال، وتخطت المعدل العام الأوروبي الذي لا يزيد عن ٥٨٪، أما على صعيد الشباب فقد بلغت نسبة مستخدمي الانترنت الذين تقل أعمارهم عن ٣٥ عاماً ٩٨٪، وعندما نتساءل كيف نجح الاستونيون بإنشاء شركات تكنولوجيا معلومات عالمية مثل السكايب Skype ؟ كيف نجحوا بإجراء أول انتخابات إلكترونية في العالم وكانت نسبة المصوتين عبر الانترنت ٢٤.٥٪ من الشعب مما شكل بداية التأثير الجدي على المناخ السياسي؟ كان الجواب قاطعاً وواضحاً… السر يكمن بالتعليم.
بدأ برنامج استونيا في توظيف التكنولوجيا بالتعليم بقرار حكومي واضح عام ١٩٩٧م، وينص هذا القرار على إعطاء التكنولوجيا الأولوية الأولى، وهذا ما قد حصل فخلال السنوات الأربعة الأولى من عمر البرنامج الوطني تم تجهيز كافة المدارس بالبنية التحتية وربطها جميعها بشبكة الانترنت وتدريب جميع المعلمين خلال ٨ ساعات فقط على موضوعين أساسيين: الأول: جهاز الحاسوب ليس مخيفاً ولا يهدد أحداً، والثاني : استخدام هذا الجهاز مفيد ويمكنه تسهيل الحياة.
كان ذلك في العام ١٩٩٧م في وقت لم تكن الحواسيب منتشرة كما اليوم، ولم تكن البنية التحتية والتواصل الإلكتروني رخيصاً أو متاحاً بسهولة، والمهم في الموضوع أن الحكومة أقرت السياسة، ووضعت الرؤية ولم تدفع شيئاً، فقد كانت المصلحة العليا في تمويل العملية ترجع إلى القطاع الخاص - خاصة القطاع المصرفي وقطاع الخدمات وشركات الحاسوب المحلية- حيث قامت البنوك والشركات الخاصة العاملة في قطاع التكنولوجيا وصناعة المعلوماتية بتمويل البرنامج بالكامل لأنهم على يقين ان هذا الأموال بمثابة استثمار سيترك أثراً على التوفير المستقبلي في بنيتهم التحتية ومصاريفهم الجارية، فعلى سبيل المثال بعد إطلاق الخدمات البنكية الإلكترونية بالكامل في استونيا لم يعد من الضروري أبداً زيارة فرع البنك، لذا فقد أغلقت البنوك عشرات الفروع ووفرت مئات الرواتب الشهرية وقلصت في ميزانياتها الجارية، وفي الوقت ذاته حافظت على زبائنها ورفعت الكفاءة والسرعة في تقديم الخدمات، وهنا يأتي السؤال التقليدي: وماذا عن البطالة؟ مع الخدمات الإلكترونية المتقدمة التي تقدمها الحكومة، لا حاجة أيضاً لزيارة الوزارات والدوائر الحكومية، وعلى صعيد الأعمال خاصة يمكن لأي مواطن فتح شركته الخاصة والحصول على كافة التصاريح إلكترونياً خلال مدة أقصاها ١٨ دقيقة، كما يمكنه دفع الضرائب المستحقة وإجراء المخالصات التجارية الضريبية عبر شبكة الانترنت أيضاً، ويمكنه بيع الخدمات وحتى المتاجرة إلكترونياً وجني الأموال داخل وخارج استونيا كما تدرب وتعلم منذ نعومة أظافره في المدرسة. وأما عن الثقافة المجتمعية فإن الحكومة استثمرت ١٪ من ميزانيتها السنوية فقط في رفع مستوى الوعي فباتت تبث هذه الرسالة وتنشرها في كل مكان، كما وعقدت آلاف الدورات لمئات آلاف المواطنين منذ العام ٢٠٠٢ وحتى العام ٢٠١٢. واليوم E - استونيا أصبحت حقيقة قائمة، حولت استونيا من دولة فقيرة هامشية إلى دولة تصدر المعرفة وتجني منها الأموال الطائلة.
أكتب هذه المقالة وأنا أرافق مجموعة من مدراء المدارس والمعلمين الطموحين بالتغيير في زيارة تدريبية حول استونيا، للتعلم من التجربة وزيارة عدد من المدارس والجامعات التي خرجت جيلاً كاملاً يؤمن بالتكنولوجيا كأداة اقتصادية فاعلة، نتجول بين المدارس لنرى طلاباً غير مدمنين على الهواتف الذكية لكنهم يعلمون حق المعرفة كيف تعمل، لا يشتري الطالب هاتفه الذكي بل يستعيره من مكتبة المدرسة وهو يعرف كيف يستخدمه في تطبيق خاص بعلم الأحياء، يحمل الجهاز ويتجول في الحديقة المجاورة للمدرسة يصور ورق الشجر والحشرات، ويقوم التطبيق المصنع محلياً على يد مجموعة من الشباب التي أسست شركتها الخاصة لإنتاج التطبيقات العلمية بتشخيصها وتوفير المعلومات والمقارنات التقنية، يعود بعدها الطالب ليعد ورقة البحث الخاصة به وتحميلها عبر موقع خاص يتشارك فيه مع معلمه، كل منهم حسب صلاحياته، ليبدأ النقاش ويتم تقويم الأداء، وبعدها المناقشة الصفية وجهاً لوجه. ندخل الصفوف التعليمية لنشاهد طلاباً لا يحفظون بالضرورة جدول الضرب عن ظهر قلب لكنهم يلعبون بالمعادلات الرياضية ويوظفونها في الحياة اليومية. وبعد أن نخرج من كل زيارة لمؤسسة أكاديمية يبدأ النقاش بيننا : ماذا نحتاج كي نقترب من هذا المستوى ؟ يعلو دوماً موضوع العائد المادي والراتب الذي يحبسنا داخله، لكن راتب المعلم في استونيا هو أيضاً الأدنى على مستوى البلد ولا يزيد عن ٧٠٠ يورو أي ما يعادل ٣٥٠٠ شيكل، وهم أيضاً يطالبون بالزيادة وفي بعض الأحيان يضربون عن العمل من أجل ذلك، لكن هذا لا يعيق المسيرة، لا علاقة بين ما يتقاضاه العامل وبين جودة العمل الذي يقدمه وهذه القيمة الأولى التي يجب علينا استعادتها لنبدأ بنسج قصة نجاحنا، وكل ما نحتاجه في نظري هو الرؤية الثاقبة لدى الإدارة التربوية والمحاور الاقتصادية الفلسطينية، نحتاج إلى بناء الثقة، لأن ما نختلف به عن الاستونيين كلياً أن الوضع الطبيعي لديهم هو الثقة بالخبرات المحلية والاعتداد بها وثقافة الأمانة وتفضيل المصلحة الجماعية التي لا تتعارض مع المصلحة الشخصية، في حين أننا نبدأ علاقاتنا بالشك وحجب الثقة وربما التخوين والمزايدة في بعض الأحيان، والمخرج في نظري يقتضي أيضاً أن نبني الشراكة الحقيقية بين جميع القطاعات حسب أجندة وطنية تكون فيها العلاقة السائدة هي علاقة نجاح-نجاح، وليس فشل الآخر هو النجاح .