بعيدًا عن الحرب…قريبًا من الحُب. عبد الله لحلوح
ليس بعيدًا تمامًا عن الحرب، بل في عمقِها، وفي ظلِّ غلاء الأسعار، وجشع التجار، وانتشار الموتِ، وانتظارِ النار، أَكتُبُ من وحيِ الواقع، ومن كتابِ الحياة، أستلُّ الحكاياتِ التي ليسَ فيها جديدٌ سوى أنَّ الذكرياتِ أحيانًا تُجدِّدُ الذاكرة، وتعمّرها بما انطفأ وغار.
(مطعم توفيق) هذا الاسم الذي حفظناهُ عن ظهرِ قلبٍ، أو عن بطنِه، المهمُّ أنَّهُ يبقى في الذاكرة، ويرفضُ التلاشي والاندثار، فمنذ أكثرَ من أربعين عامًا، وهو صامدٌ في ذلك الركن، وإن تحرّك قليلًا، أو حاول أن يزحفَ مع التطوُّرِ المصطنع، أو أن يأخذَ اسمًا ورسمًا جديديْن، فإنّه يبقى مطعم توفيق، بشحمِهِ ولحمِهِ، دون أن يكون فيه ما يُشيرُ إلى اللحم أو الشحم، بل بِحمّصه وفلافله وفولِهِ، يظلُّ شاهدًا على نكهةٍ أصليِّةٍ أصيلةٍ تُذكّرنا بالخوالي من الليالي الملاح، وبِفُطورِ كلِّ صباح، إذ كنّا نأخذ الصحنَ من الدار، ونهرَعُ إليه صباحًا، والشيقل الوحيد، يتمرجحُ في الصحنِ الفارغ، ونصطفُّ طابورًا في مطعمِهِ الضيِّق، الذي كان يتّسعُ للحُبِّ والحَبِّ في زمن السِّلمِ والحرب، والصحن بشيقل واحد، كان هذا السِّعرُ عندما كان الشيقل يحكي ويُغنّي، واستمرّ الأمرُ على ما هو عقديْن أو ثلاثة، وارتفعت الأسعار، ولم يُغيِّر توفيق، ولم يُبدِّل تبديلا، وعشرةُ حبّاتٍ من الفلافل التي لم أرَ في حياتي حبةً أكبرَ منها، وهي تتدلّى في الصاجِ فتغوصُ كسبّاحٍ ماهرٍ، فتبقبِشُ وتُفرفِشُ ثمَّ تخرج مقرمشةً لذيذةً بنكهةٍ ما ذقتُ لها مثيلًا في حياتي، بشيقل واحد ١٠ حبات فلافل من الحجم العائلي، وحبة فوقها زيادة، وحبّة يُناولكَ إياها قبل أن يبدأ بالعدّ، وقد يصلُ الأمر إلى حبتين لو طلبت فلافل بشيقل ونص أو أكثر. فتأخذ صحن حمّص تختاره أنتَ بحجمه وشكله؛ لأنّك تُحضره معك من البيت، وتنتظر أن تجهز ( المدقّة) فالحمّص التوفيقيُّ على اليدّ، ولا مجال للماكينات فيه، وكنّا إذا ما حصلنا على ذلك الصحن، ( ندشع) على الدار فرحانين، ولا يخلو الأمر من لحسة حمّص على الطريق، وإذا ما وصلنا البيت، تحلّقنا حول الصحن، وغالبًا ما كانت تقوم ( طوشة) إذا في واحد لقمته كبيرة، فكان أحدنا يحاول الدفاع عن ناحيته، فيصرخ: (تِلْهَطِشْ). وكُلْ من قدامك، وخلّي لقمتك صغيرة، وينتهي الصحنُ مجليًّا بشيقل واحد.
الآن ومع ارتفاع الأسعار، وحركة الغلاء الفاحش، ارتفع سعر الحمص عند توفيق، والله يكون بعون الناس في ظل هذه الأوضاع، الصحن كما ترون لا كما تسمعون( جاط) بهذا العمق، وهذه الزكاوة، وهذا الطعم الذي يلفحُ اللسان، ويضرب الوتر السادس، أصبح ب(٣ شواقل).
قبل عدة أيام، وصلتُ عرابة، ولا يمكن أن أصلها دون أن أزور مطعم توفيق، الذي لم يتغيّر فيه شيءٌ سوى أنَّ أبناءَه استلموا العمل، بعد أن مرض والدهم( العم توفيق أبو محمد) الذي نرجو الله أن يمنَّ عليه بالصحة والعافية. وفي هذه الزيارة الأخيرة أخذت ثلاث صحون، وثلاثين حبة فلافل، وربطتْين من الخبز الطازج، ب(٢٨ شيقلًا) فقط لا غير.
الأسعار مرتفعة جدًّا مقارنةً بالأسعار المتواضعة في المدن الأخرى، ولَكم أن تتخيلوا سعر هذه الوجبة في مكانٍ آخر.
ليس هذا هو المهمّ، ولكنَّ الأهمَّ هو أنّك تدخل هذا المطعم الصغير مساحةً الكبير حُبًّا بطيبةِ هؤلاء الشباب الذين يحتضنونك بقلوبهم وعيونهم، وهناك تسمع بعض الزبائن وخاصة من الأطفال: حُطّلّي بشيقلين فول، وبثلاث حمُّص. واعطيني نص رغيف( بشيقل) ورغيف ب(٢ شيقل). طبعًا الرغيف= كماجة فيها مسحة حمّص بتصير تْفيع من الأطراف وأنت تمعط فيها، وحبتان فلافل أو ثلاثة، وبندورة. وامعط وتهنّى وارجع عنّا.
طيب لو دخلت على مطعم في مكان آخر وقلتلّو حطّلّي بشيقلين فول. الله أعلم كيف ستكون النهاية.
كل التحية للشباب الحلوين