في مطلع عام 1977 زار الأمير الحسن بن طلال الولايات المتحدة، مندوباً عن الراحل الملك الحسين بن طلال. والتقى في أثناء رحلته، وكان لا يزال في الحادية والثلاثين، واحداً من أقوى رجالات الولايات المتحدة، وكان يدعى أحياناً "صانع الرؤساء"، لأن من يمنحه ثقته من المرشحين لرئاسة الولايات المتحدة، كان ينجح فيها. هذا الرجل كبير الفعل صغير الحجم ذو النظارة عميقة العدسات ليس إلا "جورج ميني" "George Meany"، رئيس اتحاد نقابات عمال الولايات المتحدة، أو ما كان يُسمى تحالف AFL-CIO (اتحاد نقابات العمال ومؤتمر المنظمات الصناعية). ويذكر له أنه وقف وراء جون كينيدي ففاز بانتخابات الرئاسة عام 1960.
وبعد تلك الزيارة بأشهر، دُعيت أنا إلى الولايات المتحدة من قبل أحد مساعدي "ميني"، واسمه إرفينغ براون (Irving Brown)، الذي صار رئيس (AFL) بسبب إنجازاته الكبيرة في فكفكة النقابات العمالية الشيوعية في أوروبا. وقد زار الأردن وتعرّف إليّ حين كنت أيامها قد عُينت قبل شهرين أميناً عاماً لوزارة العمل. وقد حدثني "براون" عن أنه ساهم في قتل عدد من رؤساء النقابات الشيوعيين في أوروبا، وأنا أنظر إليه بعينين جاحظتين قلقاً وتعجباً. وقد أخذني "براون" بعد وصولي إلى واشنطن العاصمة بيوم واحد للقاء الرئيس الأعلى لنقابات العمال، جورج ميني، وقد كان في الثامنة والثمانين.
لما دخلت إلى مكتبه، نظر إليّ متأملاً، وعيناه بالكاد مفتوحتان، وسأل بصوت عالٍ: "هل جميع المسؤولين في بلدكم صغار السن؟". لم أكن صغيراً، بل كان عمري أيامها (33) سنة. فقلت له بصوت عالٍ: "في بلدي الأردن، الحكمة والسن ليستا متلازمتين بالضرورة". فقال: "آه، لدينا فتى فصيح، أنت شجاع وأحبك لذلك. ثم أخرج سيجاراً وقدمه إليّ، فأخذته منه وأشعله لي بقداحته، فقلت: "هافانا؟". فانتفض على كرسيّه صائحاً: "أبداً ومستحيل أن أدخن سيجاراً كوبياً".
وكان الرئيس الأميركي أيامها جيمي كارتر، الذي كان قبلها حاكماً لولاية جورجيا. ولم تكن حظوظه في الفوز بالرئاسة مرتفعة، ولكن لما أيدته النقابات العمالية، فاز بالانتخابات. وقد اطلعت على مقدار القوة والنفوذ الذي تمتعت به النقابات، خصوصاً أن الاقتصاد الأميركي كان قد دخل مرحلة التراجع والتضخم في آن واحد بسبب الارتفاع في الأسعار وارتفاع نسبة البطالة.
لذلك، تبنت أميركا عبر تاريخها قوانين تسمح فيها للعمال بحرية الانضمام إلى النقابات، لكن النقابات إبان فترة الكساد الكبير 1929-1939 تحولت إلى نقابات يسارية عنيفة، حيث كانت تمارس أنواعاً من الإضرابات سُمِّي أحدها بـ"إضراب الكلب الأصفر"، إذ يفرض العمال الانتساب على العمال غير الراغبين في الانضمام إلى النقابات. وقد جاء الرد بتوقيع عقد مع النقابات سُمِّي "عقد الكلب الأصفر"، يحول دون السماح للنقابات بمطالبة العمال بالانضمام إليها. ونوع آخر سُمِّي "إضراب القط المتوحش"، الذي يعني إعلان مجموعة من العمال في مصنع التوقف عن العمل دون إنذار أو تنسيق مع النقابة المعنية أو إدارة الشركة، ويكون مصحوباً بأعمال عنف وتكسير للآليات والمنشآت، وكل هذه الأمور ضُبطت ووُضعَت لها قوانين.
أما على الجانب الآخر، فقد كان الرأسماليون والأثرياء في أميركا يستغلون العمال ويثرون كثيراً. وقد صار بعض هؤلاء مشهورين بثرائهم، وتجمعوا وبنوا لأنفسهم قصوراً فارهة في مكان معين. ومن هذه الأماكن مدينة "نيوبورت" على شاطئ المحيط الأطلسي في شرق الولايات المتحدة، وفي ولاية "رود آيلاند" "Rhode Island" تحديداً. وقد شاهدت عدداً من هذه القصور، مثل "قصر أبواب الريح" لعائلة فاندريلت، مالكة سكك الحديد، وقصر عائلة "روكفلور" الذين اغتنوا من وراء التنقيب عن النفط في بنسلفانيا وأوكلاهوها وكاليفورنيا، وأنشأوا شركة "ستاندارد أويل". وكذلك عائلة مورغان الشهيرة بامتلاكها أكبر البنوك الاتحادية في مدينة نيويورك، وغيرهم.
وقد حقق هؤلاء أرباحاً طائلة عن طريق الاحتكار. ولذلك ثار الكونغرس عليهم، ووضع قانوناً للحد من المخالفات الاحتكارية، وهو قانون "شيرمان" لعام 1890. لكن الاكتشافات التي فتحت مجالات للثروة في صناعات الحديد، والسيارات، والموسيقى، والصناعة، والحرب العالمية الأولى، وزيادة الهجرة إلى أميركا عموماً والولايات المتحدة بعد انتهاء هذه الحرب، جعل العمالة رخيصة والأرباح تصل إلى سقوف لا حدود لها. ولم تشرِّع الولايات المتحدة لضريبة الدخل إلا عام 1917، حيث كان بعض المعروفين مثل أعضاء محكمة العدل العليا عام 1895 قد امتنعوا عن تشريع الضريبة على الأرباح بحجة أنها غير مشروعة وتتناقض مع الدستور الأميركي. وهناك كتّاب آخرون شاركوا هذا الرأي، علماً أن فلاسفة الثورة الفرنسية الذين أغرم بهم الأميركيون مثل جان جاك روسو، وبريطانيون مثل "هوبز وَلوك" (Hobbs& Locke) كانوا مؤيدين لها.
وفي كتابه الصادر عام 1954، والموسوم بـ"الرأسمالية الأميركية"، قدم إلينا الاقتصادي الأميركي جون ك.غالبريت (John Kenneth Galbraith) نظرية "القوة المقاومة" أو (Countervailing Power) التي تقول إنه متى ما نمت قوة على جانب من السوق، فإن الجانب الآخر يبني لنفسه قوة بفعل حرية حركة الأسعار والكميات، تعيد التوازن إلى السوق.
ولكن هذه النظرية لم تعمل بكفاءة إبان عشر سنوات من الانهيار الاقتصادي في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. وهذه دفعت الاقتصادي الكبير جون مينارد كينز ليقول إن هناك عقبات ثلاث تحول دون عملية إعادة التوازن. أولها ما سُمي مصيدة السيولة، حيث لا يُقبل المستثمرون على الاستثمار، حتى ولو خفضت أسعار الفائدة إلى حدود دنيا، لاعتقادهم أنها ستنزل أكثر. والأمر الثاني نقابات العمال القوية التي لا تسمح بتدني الأجور في سوق العمل حين يكون فائض العرض كبيراً. والثالثة تفضيل الناس للسيولة ليكونوا جاهزين لأي طارئ. وعليه، فإن قوى العرض والطلب في أسواق المال والعمل والسلع لا تستجيب بالقدر الكافي.
واقترح كينز أن تتدخل الحكومات من أجل التخلص من أعناق الزجاج التي تحد من حرية الحركة في الأسواق. وقد وضع كثير من تلامذته والاقتصاديين المتأثرين بمدرسته نظريات دعت إلى ضرورة تدخل الحكومة في إنشاء البنى التحتية، وتوفير الأموال للاستثمار، وتحفيز الطلب من طريق شراء الحكومة المباشر. وقد نجحت هذه السياسة في تحريك الاقتصاد بجانب اشتعال الحرب العالمية الثانية، حيث زاد الطلب المحلي والعالمي على السلع المصنعة في الولايات المتحدة، وخرجت بعد الحرب أغنى دولة في العالم، ووضعت مشروع مارشال الكبير، وساهمت بقوة في إنشاء المؤسستين الماليتين الدوليتين باعتبارهما شركتين حكوميتين، وهي صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومجموعة المؤسسات التابعة له.
إذن، كان العالم يجد في الفصل بين القطاعين، العام والخاص، في مجالات متعددة لإحداث أمور مهمة. أولها دفع عجلة التنمية وتوفير البنى التحتية المطلوبة لإنشاء البنى الفوقية المنتجة. وثانيها أن الفصل بين القطاعين يعطي الحكومة الحق في ضمان حسن توزيع الثروة والدخول بين مختلف فئات الشعب، فلا تكون هذه دولة بين عدد محدد من الأثرياء. والأمر الثالث هو القدرة على توفير التمويل اللازم لتمكين الحكومة من الإنفاق على البرامج الاجتماعية والصحية والتعليمية التي لا يجوز تركها للقطاع الخاص وحده. والأهم عنصر الرقابة الذي يمكّن الحكومة من تطبيق القوانين أو تعديلها أو استخدامها لمنع الاحتكار والتخزين الاحتكاري والمخالفات الاحتكارية التي لا ترحم وتشوه صورة التوزيع العادل.
وها نحن نعيش الآن فترة نجاح ثانية للرئيس ترامب الذي تبنى مشروع "MAGA"، والذي ينادي بجعل أميركا عظيمة ثانية. ولإنجاح المشروع، عيّن ثلاثة من المليارديرات الكبار، وهم: إيلون ماسك، وجيف بيزوس من أمازون، وبيتر ثيل Peter A. Thiel صاحب Pay Pal وغيرها، من أجل أن يساعدوه في اتخاذ الإجراءات والسياسات التي قد تتطلبها عملية استعادة الأمجاد الأميركية إبان السنوات الأربع القادمة.
وبمعنى آخر، فإن هؤلاء الثلاثة، وبخاصة "ماسك"، سيتحكمون في سياسات الحكومة، ويصدرون أوامر للوزراء لكي يقوموا بها وفق آراء هؤلاء وغيرهم من كبار رجال الأعمال. ويأتي هذا كله في زمان لم يشهد تاريخ البشرية أسوأ منه توزيعاً للدخل والثروة، وأن واحداً في المائة من سكان العالم أو ثمانية ملايين شخص يحكمون ويملكون 90% من ثروة العالم.
ومن المعروف أن المصطلح لهذا النظام هو "Plutocracy" الذي يعني هيمنة الأغنياء على الحكومات. أما الآن، فإن مبادرة الرئيس ترامب، سأسميها "Wealthocracy" التي سأترجمها إلى حكومة الأثرياء. وهذا يؤدي تماماً إلى تحييد أدوار الحكومة باعتبارها موزعاً للدخل والثروة، ومعيداً لتوزيعها بشكل يحقق العدالة. ويحد من دورها في منع الاحتكار وممارساته المختلفة. وسينغلق الاقتصاد الأميركي الكبير على نفسه تحت شعار "الانعزالية". وحيال هذا التطور، فإن الرئيس دونالد ترامب ينادي بإعفاءات ضريبية تفيد الأغنياء أضعاف ما تفيد الفقراء، وسيرفع الجمارك على المستوردات من كندا والمكسيك وإيران، ويرفعها أيضاً بنسب أقل على أوروبا، وسيفرض عقوبات عالية على الصين التي قد يرفع الجمارك على صادراتها بنسبة تصل إلى 60%. هذه الإجراءات سترفع نسب التضخم، وهو أحد العوامل المهمة في زيادة دخل الأغنياء (أصحاب الأرباح على حساب العمال) ولصالح الحكومة التي يديرها هؤلاء الأثرياء.
مثل هذا الأمر يجب الاستعداد له، ومنع نتائجه من التسلل إلى اقتصادات العالم بإجراءات لا بد لباقي العالم أن يتبناها. وقد تأتي نقطة الانطلاق من منظمة "بريكس". والله أعلم.
عن (العربي الجديد)