عدّلت مكونات مقالتي لليوم بعد تواصلي مع الناس بعد صلاة الجمعة في المسجد وقبلها، فالناس مخزن معرفة متحرك، ولكنْ لا أحد يبحث في هذه المخازن، كانت المبادرة من قبلهم وبدأنا نقاشاً امتد ساعةً كاملةً بعد صلاة الجمعة، وهذه ليست تجربتي الأولى في التواصل.
من الواضح أن هناك أزمةً ماليةً خانقةً تعيشها السلطة، من الواضح أن هناك تراجعاً في القدرة الشرائية للمستهلك الفلسطيني الذي لم يعد دخله يتناسب أو يقترب من غلاء الأسعار.
من الواضح أن القطاع الخاص الفلسطيني والقطاع الأهلي والأحزاب والقوى السياسية ترى أن المعركة ليست معركتها من بعيد أو قريب، خصوصاً إذا ما قارناها بمعركة ضريبة الدخل التي خاضها القطاع الخاص ببسالة وانتصر لنفسه، واليوم بما أن الأسعار وضريبة القيمة المضافة يدفعها المواطن فالأمر بسيط جداً.
من الواضح أن البعض يقيس بمقياس خاطئ، بحيث يحصي عدد مرتادي المطاعم والكوفي شوب في المدن ليخرج باستنتاج أن الأوضاع تمام التمام، وهذا مقياس مضلل طبعاً، ولعل بعض من شارك في حملات توفير القرطاسية للعائلات المحتاجة ومن عمل على توفير الملابس للعائلات المحتاجة يمتلك جواباً عن هذا المقياس المضلل من عينات عايشوها خلال هذه الحملات تقطن في وسط المدن، على الرغم من أن هناك من يقتنص مالاً من مشاريع يسميها خيرية على اسمهم ولا يصل لهم شيء منها.
الفهم الشعبي غير الموجه والذي يمتلك مخزوناً من المعرفة يرى أن الأزمة المالية هي جراء ما صنعته أيدي السلطة، وهناك مكونات أخرى، ولكنها ليست في مقدمة اهتمام الفهم الشعبي، فلا المانحون ولا المقرضون ولا الحصار لدفع ثمن سياسي؛ لأن هذا ليس شأنهم في هذه اللحظة.
في الفهم الشعبي، الأزمة المالية لا مواكبة لها بمظاهر من التقشف بصورة يرى الرأي العام الفلسطيني مظاهر تعاط إيجابي مع هذه الأزمة، فيغض الطرف ولو جزئياً عن تراجع وضعه المعيشي والمالي وارتهانه للمدينين والأقساط والالتزامات التي لا تنتهي مع بداية العام الدراسي. والفهم الشعبي في هذه الجزئية حاد جداً في مقاييسه بهذا الاتجاه، بدءاً من حركة سيارة بنمرة حمراء بعد ساعات الدوام الرسمي وفي أيام العطل مروراً بعدد السيارات الحمراء والتي تنتهي بـ (99) أمام هذا المطعم الفاره أو ذاك الفندق الفاخر، وليس انتهاء بعدد المسافرين لدورات تدريبية أو جولة للتعرف إلى تجربة في دولة أخرى أو زيارة استطلاعية من قبل المسؤولين على اختلاف رتبهم.
الفهم الشعبي لا يستطيع أن يتفهم أن مكونات السلطة لا تستطيع أن تفعل شيئاً تجاه الغلاء الذي يضرب أطنابه في السوق، ولو كان التدخل لا يكلف السلطة فلساً واحداً، كيف يكون هذا مقبولاً في الفهم الشعبي.
الفهم الشعبي في الوطن لا يعرف شخصاً مسؤولاً غير الدكتور سلام فياض رئيس الوزراء، فهو في نظرهم الاقتصاد وهو المال، هو من نظم ملف الرواتب وملف الإيرادات وأشرف على ثلاثة مؤتمرات استثمار فلسطينية، وبدأنا نقول إن استثماراً عربياً سيحدث في الوطن، وهو اليوم أي المواطن الفلسطيني يعود مرة أخرى ليقول للدكتور سلام فياض رئيس الوزراء: ارتفعت الأسعار، تآكل الدخل، ضاق بنا الحال، أين أنت من هذا كله؟ لماذا أخرت اتخاذ قرار بخصوص مواجهة ارتفاع الأسعار وتراجع القدرة الشرائية وعدم انتظام الرواتب؟ لماذا غطرشت عن الحد الأدنى للأجور وتنتظر توافقاً بين الأطراف لم يتحقق منذ سنوات؟
في الفهم الشعبي، لماذا لا تتم مراجعة دورية لمعايير الأداء في وزارات وهيئات السلطة، بحيث يشعر المواطن الفلسطيني أن أداء جيداً يحدث فيها وله انعكاسات على مجالات اختصاصها، وإلا فلماذا تنقطع الكهرباء عن المدن، ولماذا يقع خلل في برمجة عدادات الكهرباء في مناطق محددة يكلف المواطن مالاً إضافياً، لماذا تنقطع المياه وتخرب المضخات في الآبار ولا نعرف عن خرابها إلا بعد أسبوعين، ما هي الأسس المعتمدة لتقييم الأداء، وما هي الخطوات المتخذة لتبسيط الإجراءات، والموازنة بين معايير ضبط الدوام ورفع الإنتاجية، لماذا تتم الغطرشة الواضحة عن عدم دوام البعض أو عدم الانضباط في الدوام.
في الفهم الشعبي الجواب الرسمي بخصوص ارتفاع أسعار البترول في السوق الفلسطينية وعدم وجود أرباح لا يلقى قبولاً وهم يمتلكون رؤية متنوعة تجاه هذا الأمر، منهم من قال لماذا لا تستخدم حجم الإيرادات من الضرائب على البترول لتحسين مستوى الدخل كخطوة للاستفادة من هذه الإيرادات وكذلك الضرائب المتحققة على التبغ. ورؤية أخرى وهي الأكثر شيوعاً، لماذا لا يتم تخفيض جزء من الضرائب المتحققة على البترول ليتم تخفيض السعر على المستهلك.
في الفهم الشعبي، فإن ارتفاع الضرائب والأسعار يجب أن يترافق مع تطوير الخدمات في كافة المجالات ولا يجوز أن يدفع المواطن ضريبة مرتفعة (القيمة المضافة والدخل) وضريبة أملاك وضريبة معارف وضريبة كناسة وحراسة ولا يجد أياً من الخدمات التي تتطور وتحدث.
في الفهم الشعبي لم يعد مقبولاً أن ينتظر نتاج عمل الفريق الوطني لتأسيس صندوق الضمان الاجتماعي بما يضمن التقاعد والتأمين الصحي وشبكة الأمان الاجتماعي كمكونات من ضمنه، إلى متى ينتظر المواطن الخروج بنتاج عمل هذا الفريق الوطني؟ هل يبقى الرأي العام الفلسطيني بالانتظار لحين ارتفاع آخر بأسعار المحروقات وارتفاع آخر على ضريبة القيمة المضافة.
في الفهم الشعبي، فإن ما يحدث من غلاء وعدم مقدرة على إجراء تدخل حكومي للحد منه (بروفة) "تمرين" لتأجيل الانتخابات المحلية التي ستكون الضحية الأسهل نتيجة هذا الوضع وليس أي شيء آخر بالتأكيد، تارة بحجة الأفضل الانتخابات التشريعية والرئاسية، وثانياً أن توافقاً لم يحدث على القوائم وإن بدا الأمر غير ذلك، وثالثاً أن الرأي العام الذي سينتخب غير مبال بالأساس.
في الفهم الشعبي، لماذا لا يصار لعمل تنظيمي على القطاعات التي تمس حياة المستهلك بشكل يومي وساعة بساعة مثل تنظيم قطاع المياه عبر تفعيل مجلس المياه الوطني المؤهل لوضع التعرفة المائية ورفع سوية هذا القطاع، وتأسيس هيئة تنظيم قطاع الاتصالات، إن مراجعة موضوعية لفواتير المياه والكهرباء والاتصالات والإنترنت ضمن مكوناتها المبالغ بها من حيث الإضافات عليها واتخاذ خطوات تخفيفية سيحقق تراجعاً في قيمة هذه الفواتير يخفف عن المستهلك.
الفهم الشعبي يدعو إلى مشاريع إسكان ملبية لاحتياجات محدودي الدخل وذوي الدخل المحدود، وإعادة النظر في آليات سوق الإسكان التجاري وتدخل لتنظيم سوق العقار في فلسطين.
في الفهم الشعبي، تحول الاحتجاجات إلى فوضى وإضرار بمصالح الآخرين أمر غير محمود سيسهل عملية الانقضاض عليه دون أي إجراءات تبدو أنها تمس حرية الرأي والتعبير ولكن بطرق أكثر ذكاء وجاذبية.
لا بد أن تخاطب السلطة شعبها وتطلعه على الواقع وتطرح إجراءات سريعة حتى لو جاءت على حساب الإيرادات من بند الضرائب على المحروقات والتبغ، فالمكاشفة والمصارحة هي أقصر الطرق، وأرزاق الناس ليست بابا للنقاش بغض النظر عن حجم الأزمة.
أتمنى على وزارة الأوقاف والشؤون الدينية ألا توجه خطباء المساجد باتجاه خطب من نوع التكافل الاجتماعي وأوجه الإحسان في الدنيا، حيث أعطى فلان آخر رغيف خبز معه للطفل، ووالدته وأسرته أشد عوزاً من الطفل الذي أعطى له الرغيف، أرجوكم يا وزارتنا الكريمة اتركوا هذا الباب لأننا نعرفه ونتقنه ونعرف أوجه التسول والاستدانة والاعتماد على الآخرين، فلا تخاطبونا بهذا الخطاب ظناً منكم أن له جدوى. ولا أريد أن أذكر بقضايا شبيهة في هذا الباب قد تزعج مسامع المسؤولين!.
أتمنى على الكتاب والصحافيين زملائي ألا يستخدموا قلمهم ليبرروا أو ينصحوا الحركات الاحتجاجية أو يسيروا باتجاه أن الغلاء انعكاس للغلاء العالمي، لقد بات واضحاً أن جزءاً كبيراً من حجم الغلاء في السوق هو صناعة محلية نتيجة غياب آليات ضبط السوق وتنظيمها، وعدم إحداث تدخلات حكومية على مدار العامين الأخيرين، وآثار بروتوكول باريس الاقتصادي وعدم تحويل الملف الاقتصادي إلى ملف مواجهة مع الاحتلال بل جعله قيداً علينا بحيث ساهمنا من حيث ندري أو لا ندري في تعميق تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي حيث نبتاع 3.5 مليار دولار سنوياً من السوق الإسرائيلية بمعنى 95% من تجارتنا مع السوق الإسرائيلية والباقي من أسواق أخرى، ولا نورد للسوق الإسرائيلية إلا 400 مليون دولار معظمها حجر ورخام.
كتابنا وصحافيينا.. باتت استثماراتنا الكبرى في القطاع الزراعي في قطاعات تستفيد من مصادر المياه المحدودة في فلسطين وتصدر للخارج وتحقق أرباحاً وكأن العالم يشتري منا الماء فقط ليوفر على نفسه وهذا ما يحدث مع السوق الإسرائيلية حيث يقومون بالآلية نفسها.
أين التقشف في موازاة الأزمة المالية؟
بقلم: صلاح هنية