م يتوانَ رئيس الحكومة سلام فياض عن إعلان استعداده للاستقالة إذا كان فيها الحل للأزمة الاقتصادية الناجمة عن غلاء الأسعار في الضفة الغربية، كما لم يتوانَ عن الظهور في وسائل الإعلام واللقاء مع الكادر الصحافي والإعلامي، لا لتبرير الأزمة ولكن لشرح أبعادها، كما ظل حريصاً على أن يفتح موقعه على "الفيس بوك" لمناقشة الجمهور حول هذه الأزمة، فياض يكاد لا يظهر إلاّ عند الأزمات في وسائل الإعلام، والانطباع الناتج عن هذا الظهور يربطه بالأزمة التي يتغيّر عنوانها بين فترة وأخرى، ورغم أن البعض أخذ عليه انشغاله المستمر بافتتاح مصنع هنا، ومركز ثقافي هناك، أسبوعياً إن لم يكن يومياً، على أساس أنه يترأس هذه الإنجازات التي نشهدها على الدوام في كل ربوع الضفة الغربية، فإن هذا المأخذ الذي يتصيده البعض، يعكس حقيقة ما وفرته حكومته بالحدود القصوى الممكنة في ظل الأوضاع السائدة، من إنجازات حقيقية على الأرض، لا يتحدث عنها فياض، بل يترك ذلك للمؤسسات الدولية وشهادات مراكز الاستقصاء والبحث، فهو مقل في الحديث عما تم إنجازه لكنه يظهر وبالضرورة في الصورة عند إطلالة كل أزمة، كما تشهد عليه الحالة التي تعيشها الضفة الغربية الآن.
ولا شك في أن التحركات الشعبية المتزايدة والمتواصلة في مناطق عديدة في الضفة الغربية، تعكس عدم قدرة المواطن على تحمّل موجة الغلاء المستفحلة، لكنها تعكس في الوقت نفسه، مدى الحرية التي يتمتع بها المواطن الفلسطيني في الضفة الغربية للتعبير عن رأيه في وسائل الإعلام كما في الشارع، وهو حق مشروع ومكفول يستخدمه المواطن بلا تردد، وبلا خوف، وهو إنجاز لا يشعر بقيمته سوى المحرومين من هذا الحق.
وفي إطار التقليل من أهمية هذا الإنجاز، شرعت بعض الأقلام لتشير إلى أن سبب ذلك يعود إلى أن قوى الأمن الفلسطينية في الضفة الغربية، هي التي تغض الطرف عن سوء استخدام هذا الحق بالتعبير والتظاهر لأن بعض قادة فتح، استثمروا بنجاح حتى الآن، موجة الغلاء، لإثارة الشارع واستثماره في مقارعة سلام فياض في محاولة من هذا البعض للتخلص من رئيس الحكومة، خدمة لأجندات شخصية ذات طبيعة انتقامية، على حساب القضايا الأكثر أهمية، كالمواجهة مع الاحتلال، وإنهاء حالة الانقسام والأهم من ذلك كله إعادة بناء الحياة الديمقراطية داخل حركة فتح ومؤسساتها، باعتبار هذا الإحياء، هو ركيزة التمسك بالمشروع الوطني الفلسطيني، هذه القضايا الجوهرية تكاد تغيب عن أجندات هذا البعض تماماً، وينحصر توجهه نحو إقالة فياض، وذلك منذ حكومته الأولى بعد الانقسام حتى الآن، وفي كل مرة يتم استثمار الأزمات، لا لمحاولة وضع حلول لها، ولكن لإثارة الجمهور خدمة لهذه الأجندات الفصائلية والشخصية.
ليس في ذلك تقليل من عمق الأزمة، ولا تبرير لمواقف حكومة فياض وأدائها، فهي حكومة مسؤولة مسؤولية تامة عما وصلت إليه الأمور، خاصة في المجال الاقتصادي، كما أنه ليس إدانة لأي تحرك شعبي هادف إلى تحسين ظروف الحياة ومواجهة الغلاء والبطالة والإقرار باستخدام هذا الحق على نطاق واسع كلما كان ذلك مطلوباً وضرورياً، إلاّ أن ذلك يجب ألا يحجب دور الدخلاء وبلطجية السياسة الذين هرعوا لاستثمار جوع الناس وبحثهم عن حياة أفضل تليق بالإنسان، لتمرير أنانيتهم المريضة والإفادة من هذه التحركات لحسابهم الشخصي بعيداً عن الشعارات المرفوعة والبيانات المغرضة، موجهين حركة الشارع حتى لا تظل في الإطار السلمي، بل تشجيع هذه التحركات على إقفال الشوارع وشل حركة السير وإقلاق راحة المواطنين.
كان بإمكان حكومة فياض، أن تعيد هذه الأزمة، إلى مقاربة مع الوضع الدولي على الصعيد الاقتصادي، تداعي اقتصاد دول عديدة حتى بعد الدعم الأوروبي لها، زيادة أسعار المحروقات على الصعيد الدولي، إجراءات الاحتلال الإسرائيلي المعروفة للجميع، مع ذلك، وفي ظل هذه الأوضاع تقلص العجز في الميزانية الفلسطينية لأقل من 800 مليون دولار (مليار و800 مليون دولار عام 2008 إلى أقل من مليار بين عامي 2011 ـ 2012)، في وقت تراجعت فيه الدول المانحة عما التزمت به من تحويلات في محاولة منها للضغط على الجانب الفلسطيني كي لا يطرح القضية الفلسطينية على الجمعية العامة، ومحاولة الحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية كدولة غير عضو فيها.
لكن حكومة فياض، تشير إلى هذه المعطيات باعتبارها "تحصيل حاصل" ولجأت إلى أساليب عديدة للتخفيف من الأزمة، فقامت بترشيد الإنفاق الحكومي، وتعزيز الإيرادات من دون رفع للضرائب، بل من خلال تحسين عمل الإدارة الضريبية ومعالجة التهرب الضريبي، في وقت قلصت فيه من حجم القيمة المضافة بحوالي 2 في المئة، على أن ذلك قد يشكل أزمة إضافية، من خلال تشجيع هجرة الموارد إلى إسرائيل، حيث الأسعار الأقل تشجع على تهريب المنتجات إلى سوق الأسعار الأكبر، مع ذلك فإن الأرقام والمعطيات الإحصائية لا تكفي لإقناع المواطن الرازح تحت الغلاء والبطالة وتحريض المستفيدين من التصيد من الأزمات.
ولا نعتقد أن هناك حلولاً سحرية لهذه الأزمة طالما ظل الاحتلال هو اللاعب الأساسي والهادف إلى إضعاف السلطة الوطنية كيما يتمكن من فرض حلوله وخططه، وفي هذا السياق هناك خشية موضوعية من أن تنتقل التحركات الشعبية السلمية إلى حالة من الفلتان والفوضى، وهو أمر متوقع إذا لم يوضع حد أولاً لبلطجية السياسة الذين يتخذون من حركة فتح ـ حسب زعمهم ـ سنداً لتحريضهم، وإذا كان من حق حركة فتح قيادة التحرك الجماهيري بحكم تجربتها ومسؤوليتها عن المشروع الوطني الفلسطيني، فإن هذا يصل إلى الإشارة الحمراء عندما ينتقل الحراك الشعبي إلى فلتان وفوضى، وهي بالتالي مسؤولة مسؤولية كاملة عن استمرار حرية التحرك الشعبي، ومسؤولة أكثر كي لا يتحول إلى فوضى شاملة، وهذا يتطلب الوقوف في وجه المتطفلين والدخلاء من بين صفوفها وإيقافهم عند حدهم!!.
الضفـة الغربيـة .. و"البلطجـة" السياسيـة!!
بقلم: هاني حبيب